الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
و{مختوم}، يحتمل أن يختم على كؤوسه التي يشرب بهما تهمماً وتنظيفاً، والأظهر أنه مختوم شرابه بالرائحة المسكينة حسبما فسر قوله تعالى: {ختامه مسك}، واختلف المتأولون في قوله: {ختامه مسك} فقال علقمة وابن مسعود معناه: خلطه ومزاجه، فقال ابن عباس والحسن وابن جبير معناه: خاتمته أن يجد الرائحة عند خاتمته.الشرب رائحة المسك، وقال أبو علي: المراد لذاذة المقطع وذكاء الرائحة مع طيب الطعم، وكذلك قوله: {كان مزاجها كافوراً} [الإنسان: 5]، وقوله تعالى: {زنجبيلاً} [الإنسان: 17] أي يحذي اللسان، وقد قال ابن مقبل: [البسيط] قال مجاهد معناه: طينه الذي يختم به مسك بدل الطين الذي في الدنيا، وهذا إنما يكون في الكؤوس لأن خمر الآخرة ليست في دنان إنما هي في أنهار، وقرأ الجمهور: {ختامه}، وقرأ الكسائي وعلي بن أبي طالب والضحاك والنخعي {خاتمه}، وهذه بينة المعنى: أنه يراد بها الطبع على الرحيق، وروي عنهم أيضاً كسر التاء، ثم حرض تعالى على الجنة بقوله: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}، والتنافس في الشيء المغالاة فيه وأن يتبعه كل واحد نفسه، فكأن نفسيهما يتباريان فيه، وقيل هو من قولك شيء نفسي، فكان هذا يعظمه ثم يعظمه الآخر ويستبقان إليه، والمزاج: الخلط، والضمير عائد على الرحيق، واختلف الناس في {تسنيم} فقال ابن عباس وابن مسعود: {تسنيم} أشرف شراب في الجنة وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة وهي عين يشربها المقربون صرفاً. ويمزج رحيق الأبرار بها، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح وغيرهم، وقال مجاهد ما معناه: إن تسنيماً مصدر من سنمت إذا عليت ومنه السنام، فكأنها عين قد عليت على أهل الجنة فهي تنحدر، وذهب قوم إلى أن {الأبرار} والمقربين في هذه الآية لمعنى واحد، يقال: لكل من نعم في الجنة، وذهب الجمهور من المتأولين إلى أن منزلة الأبرار دون المقربين، وأن {الأبرار}: هم أصحاب اليمين وأن المقربين هم السابقون، و{عيناً} منصوب إما على المدح، وإما أن يعمل فيه {تسنيم} على رأي من رآه مصدراً، أو ينتصب على الحال من {تسنيم} أو {يسقون}، قاله الأخفش وفيه بعد، وقوله تعالى: {يشرب بها} معناه: يشربها كقول الشاعر [أبو ذؤيب الهذلي]: [الطويل] ثم ذكر تعالى أن الأمر الذي {أجرموا} بالكفر أي كسبوه كانوا في دنياهم {يضحكون} من المؤمنين ويستخفون بهم ويتخذونهم هزؤاً، وروي أن هذه الآية نزلت في صناديد قريش وضعفة المؤمنين، وروي أنها نزلت بسبب أن علي بن أبي طالب وجمعاً معه مروا بجمع من كفار مكة، فضحكوا منهم واستخفوا بهم عبثاً ونقصان عقل، فنزلت الآية في ذلك.
وقوله تعالى: {وحقت}، قال ابن عباس وابن جبير معناه: وحق لها أن تسمع وتطيع، ويحتمل أن يريد: وحق لها أن تنشق لشدة الهول وخوف الله تعالى، ومد الأرض: هو إزالة جبالها حتى لا يبقى فيها عوج ولا أمت فذلك مدها، وفي الحديث: «إن الله تعالى يمد الأرض يوم القيامة مد الأديم العكاظي» {وألقت ما فيها}: يريد الموتى قاله الجمهور، وقال الزجاج: ومن الكنوز، وهذا ضعيف لأن ذلك يكون وقت خروج الدجال، وإنما تلقي يوم القيامة الموتى، {وتخلت} معناه: خلت عما كان فيها أي لم تتمسك منهم بشيء، وقوله تعالى: {يا أيها الإنسان} مخاطبة للجنس، والكادح: العامل بشدة وسرعة واجتهاد مؤثر، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سأل وله ما يغنيه حاءت مسألته خدوشاً أو كدوحاً في وجهه يوم القيامة» والمعنى أنك عامل خيراً أو شراً وأنت لا محالة في ذلك سائر إلى ربك، لأن الزمن يطير بعمر الإنسان، فإنما هو مدة عمره في سير حثيث إلى ربه، وهذه آية وعظ وتذكير، أي فكر على حذر من هذه الحال واعمل عملاً صالحاً تجده، وقرأ طلحة: بإدغام كاف كادح ومن هذه اللفظة قول الشاعر: [الوافر] وقال قتادة: من استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل، وقوله تعالى: {فملاقيه} معناه: فملاقي عذابه أو تنعيمه، واختلف النحاة في العامل: في {إذا}، فقال بعض النحاة العامل: {انشقت} وأبى ذلك كثير من أئمتهم، لأن {إذا}: مضافة إلى {انشقت} ومن يجز ذلك تضعف عنده الإضافة، وأبى ذلك كثير من أئمتهم، لأن {إذا} مضافة إلى {انشقت} ومن يجز ذلك يضعف عنده الإضافة، ويقوى معنى الجزاء، وقال آخرون منهم: العامل {فملاقيه}، وقال بعض حذاقهم: العامل فعل مضمر، وكذلك اختلفوا في جواب {إذا}، فقال كثير من النحاة: هو محذوف لعلم السامع به، وقال أبو العباس المبرد والأخفش: هو في قوله: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}، إذا انشقت السماء، انشقت فأنت ملاقي الله، وقيل التقدير في أيها الإنسان، وجواب {إذا} في الفاء المقدرة، وقال الفراء عن بعض النحاة: هو {أذنت} على زيادة تقدير الواو، وأما الضمير {فملاقيه}، فقال جمهور المتأولين هو عائد على الرب، فالفاء على هذا عاطفة ملاق على كادح، وقال بعض الناس: هو عائد على الكدح، فالفاء على هذا عاطفة جملة على التي قبلها، والتقدير فأنت ملاقيه، والمعنى ملاقي جزائه خيراً كان أو شراً، ثم قسم تعالى الناس إلى: المؤمن والكافر، فالمؤمنون يعطون كتبهم بأيمانهم ومن ينفذ عليه الوعيد من عصاتهم فإنه يعطى كتابه عند خروجه من النار، وقد جوز قوم أن يعطاه أولاً قبل دخوله النار، وهذه الآية ترد على هذا القول، والحساب اليسير: هو العرض: وأما من نوقش الحساب، فإنه يهلك ويعذب، وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حوسب عذب» فقالت عائشة: ألم يقل الله {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا ذلك العرض، وأما من نوقش الحساب فيهلك» وفي الحديث من طريق ابن عمر: «إن الله تعالى يدني العبد حتى يضع عليه كنفه، فيقول: ألم أفعل بك كذا وكذا يعدد عليه نعمه ثم يقول له: فلم فعلت كذا وكذا لمعاصيه، فيقف العبد حزيناً فيقول الله تعالى: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم» وقالت عائشة: سمعت رسول النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم حاسبني حساباً يسيراً» قلت يا رسول الله، وما هو؟ فقال: «أن يتجاوز عن السيئات» وروي عن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حاسب نفسه في الدنيا، هون الله تعالى حسابه يوم القيامة»، وقوله تعالى: {إلى أهله} أي الذين أعد الله له في الجنة، إما من نساء الدنيا، وإما من الحور العين وإما من الجميع، والكافر يؤتى كتابه من ورائه لأن يديه مغلولتان، وروي أن يده تدخل من صدره حتى تخرج من وراء ظهره، فيأخذ كتابه بها، ويقال إن هاتين الآيتين نزلتا في أبي سلمة بن عبد الأسد، وكان أبو سلمة من أفضل المؤمنين، وأخوه من عتاة الكافرين، {ويدعو ثبوراً} معناه: يصيح منتحباً، واثبوراه، واخزياه، ونحو هذا مما معناه: هذا وقتك، وزمانك أي احضرني، والثبور، اسم جامع للمكاره كالويل، وقرأ ابن كثير ونافع، وابن عامر والكسائي والحسن وعمر بن عبد العزيز والجحدري وأبو السناء والأعرج: {ويُصلّى} بشد اللام وضم الياء على المبالغة، وقرأ نافع أيضاً وعاصم وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وقتادة وعيسى وطلحة والأعمش: بفتح الياء على بناء الفعل للفاعل، وفي مصحف ابن مسعود: {وسيصلى}، وقوله تعالى: {في أهله} يريد في الدنيا أي تملكه ذلك لا يدري إلا السرور بأهله دون معرفة الله والمؤمن إن سر بأهله لا حرج عليه، وقوله تعالى: {إنه ظن أن لن يحور}، معناه: لن يرجع إلى الله تعالى مبعوثاً محشوراً، قال ابن عباس: لم أعلم ما معنى {ويحور}، حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها: حوري، أي ارجعي، والظن هنا على بابه، و{أن} وما بعدها تسد مسد مفعولي ظن وهي {أن} المخففة من الثقيلة، والحور: الرجوع على الأدراج، ومنه: اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور. ثم رد تعالى على ظن هذا الكافر بقوله: {بلى}، أي يحور ويرجع، ثم أعلمهم أن الله تعالى لم يزل {بصيراً} بهم لا تخفى عليه أفعال أحد منهم، وفي هذا وعيد.
|